أثقل شيء في الميزان
الحمدلله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه, الحمد لله كما ينبغي لجزيل فضلهولجميل إحسانه, أرسل رسله بالهدى والحق المبين, فكانوا للبرية مبشرينومنذرين, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبد اللهالصادق الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين..أما بعد:
فقد ثبت عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق)1..
وفي رواية: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله تعالى يبغض الفاحش البذيء)2..
وفي رواية: (ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة).3
المعنى الإجمالي:
بين النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث فضل التحلي بالأخلاق الحسنة، فذكر أن حسن الخلق أثقل شيء في ميزان العبد يوم القيامة.
ولقد كان التحلي بحسن الخلق من أخلاق الأنبياء والرسل، ومنهم نبينا محمد الذي وصفه ربه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} سورة القلم(4)..
وهذهأمنا عائشة لما سئلت عن خلقه -صلى الله عليه وسلم- قالت: "كان خلقهالقرآن" أي متخلقاً بأخلاق القرآن فعلاً لما يجب ويستحب فعله، وتاركاً لمايحرم ويكره فعله، فكان عاملاً بالأوامر مجتنباً للزواجر..
لقدكان -صلى الله عليه وسلم- ذا أخلاق حسنة، بل هو مصدرها وماهيتها، تحلىبحسن الخلق في قوله وفعله، بل هو صاحب الخلْق والخُلق الحسن، وإليك بعضالشواهد على حسن خلقه؛ فقد أخرج البخاري ومسلم: عن عبدالله بن عمرو بنالعاص -رضي الله عنهما- قال: لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: (إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً)..
وهذاأنس أحد الذين تشرفوا بخدمته صلى الله عليه وسلم- يقص علينا بعضاً منأخلاقه فيقول كما في صحيح مسلم: "خدمت النبي -صلى الله عليه وسلم- عشرسنين والله ما قال لي أف قط، ولا قال لشيء لم فعلت كذا، وهلا فعلت كذا"،زاد الترمذي: "وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أحسن الناس خلقاً،وما مسست خزاً قط ولا حريراً ولا شيئاً كان ألين من كف رسول الله -صلىالله عليه وسلم-، ولا شممت مسكاً قط ولا عطراً كان أطيب من عَرَق رسولالله -صلى الله عليه وسلم-"4. وهكذاأصحابه في عصره ومن بعده ساروا على ما سار عليه معلمهم الأول صلى اللهعليه وسلم- في كل شأن من شؤونهم، في العقيدة في العبادات والمعاملات، فيالسلم والحرب، وفي كل شأن..
كما أن التحلي بحسن الخلق من صفات عباد الله المتقين، كما أخبر الله بذلك، فقال تعالى: {وَسَارِعُواْإِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُوَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءوَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِوَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، فكل هذه الأعمال المذكورة في الآية من الأخلاق الحسنة كما سيأتي الإشارة إلى ذلك..
وقد ضمن النبي صلى الله عليه وسلم ببيت في الجنة لمن حسن خلقه؛ فقال: (..وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) وما ذاك إلا لأن حسن الخلق من الإيمان، ومن أسباب دخول الجنان؛ فعن أبي هريرة قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، قال: (تقوى الله، وحسن الخلق) وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، قال: (الأجوفان: الفم والفرج)5، قالابن القيم-رحمه الله-: "جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بين تقوى اللهوحسن الخلق, لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه, وحسن الخلق يصلحما بينه وبين خلقه. فتقوى الله توجب له محبة الله, وحسن الخلق يدعو الناسإلى محبته"6.
كماأن التحلي بحسن الخلق يدل على وجود التقوى، ولذلك فقد أوصى النبي –صلىالله عليه وسلم- بذلك؛ كما في وصيته لمعاذ-رضي الله عنه-، وهي وصية لجميعأمته: (اتق الله حيثما كنت، وأتبعِ السيئة الحسنةَ تمحُها، وخالق الناس بخلق حسن)7.فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الحث على تقوى الله، وحسن الخلق، قالابن رجب -رحمه الله- عند شرحه لهذا الحديث: "هذه من خصال التقوى، ولا تتمالتقوى إلا به -أي مخالقة الناس بالخلق الحسن-، وإنما أفردها بالذكرللحاجة إلى بيانه؛ فإن كثيراً من الناس يظن أن التقوى هي القيام بحق اللهدون حقوق عباده، فنص له على الأمر بإحسان العشرة للناس، فإنه (أي معاذ)كان قد بعثه إلى اليمن معلماً لهم ومفهماً وقاضياً، ومن كان كذلك فإنهيحتاج إلى مخالقة الناس بخلق حسن ما لا يحتاج إليه غيره ممن لا حاجة للناسبه ولا يخالطهم، وكثيراً ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوق الله،والانعكاف على محبته وخشيته وطاعته إهمال حقوق العباد بالكلية أو التقصيرفيها، والجمع بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيزٌ جداً لا يقوى عليهإلا الكُمَّلُ من الأنبياء والصديقين"8..
كما أن التحلي بالخلق الحسن مما يقرب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة؛ فعن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ من أحبِّكم إليَّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً)9.
وكانمن دعائه -صلى الله عليه وسلم- سؤال الله الهداية لأحسن الأخلاق؛ كما جاءفي الحديث الذي أخرجه مسلم عن علي بن أبي طالب عن رسول الله أنه كان إذاقام من الليل، وفيه: (... واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت)..
وحسنالخلق منه ما هو جِبلِّي ومنه ما هو مكتسب، ويكون حسن الخلق ببذل السلام،وكف الأذى، وطلاقة الوجه، وسعة الصدر، وكظم الغيظ، والعفو عمن ظلمك، ووصلمن قطعك، وغير ذلك من الخصال الحميدة، فعن الشعبي قال: "حسن الخلق:البذلة، والعطية، والبشر الحسن". وعن ابن المبارك قال: "هو بسط الوجه،وبذل المعروف، وكف الأذى". وسئل سلام بن أبي مطيع عن حسن الخلق فأنشد:
تـراه إذا ما جئتـه متهـللاً *** كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ولو لم يكن في كفه غير روحه *** لجـاد بها فليتـق الله سائلـه
هو البحر من أيِّ النواحي أتيته *** فلُجَته المعروف والجود ساحله10.
وقالبعض أهل العلم: "حسن الخلق كظم الغيظ لله، وإظهار الطلاقة والبشر، إلاللمبتدع والفاجر، والعفو عن الزَّالين إلا تأديباً أو إقامة حدٍّ، وكفالأذى عن كل مسلم أو معاهد، إلا تغيير منكر أو أخذاً بمظلمة لمظلوم من غيرتعدٍّ"11..
وبالجملة فإن حسن الخلق يشمل امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، وهو ما جاء بيانه في الكتاب والسنة.
فعلىالمسلم الذي يرجو لقاء الله والدار الآخرة أن يتحلى بحسن الخلق؛ فإنه نعمالحلية لكل من أراد التحلي والتزين في الحياة الدنيا، وهو الموصل إلىأعالي الجنان.
بعض فوائد الحديث:
1. الحث على التحلي بالأخلاق الحسنة.
2. أن الأعمال ستوزن، فهنيئاً لمن ثقلت موازينه، وخيبة وحسرة لمن خفت موازين: {فَأَمَّامَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ* فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ* وَأَمَّا مَنْخَفَّتْ مَوَازِينُهُ* فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ*نَارٌ حَامِيَةٌ} سورة القارعة(6-11).
3. إثبات الميزان يوم القيامة، وأنه ميزان حقيقي لوزن الأعمال الصالحة.
4. وفيه أن الأعمال الصالحة تتحول إلى شيء محسوس يوزن، وهذا من قدرة الله التي لا يقف دونها شيء.
5. أنصاحب الخلق الحسن يبلغ درجة الصائم القائم، وليس معنى هذا الصلاة المفروضةبل السنن كقيام الليل والنوافل.. وكذلك الصوم ليس المقصود به الفرض بلالمستحبات والنوافل.. فأما قاطع الصلاة وتارك صوم رمضان فلا قيمة له ولاوزن عند الله ولو كان على خلق حسن.
وغير ذلك من الفوائد. اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرفها عنا سيئها إلا أنت. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين..
1 رواه أبو داود، وقال الألباني: "صحيح" كما في صحيح الجامع، رقم (5721).
2 أخرجه الترمذي، قال الألباني: "صحيح" كما في
3 أخرجه الترمذي، وقال الألباني: "صحيح" كما في صحيح الجامع، رقم (5726).
4 رواه الترمذي، وقال الألباني صحيح" كما في مختصر الشمائل، رقم(296).
5 رواه الترمذي، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة(977)
6 الفوائد(54).
7 رواه الترمذي وقال حديث حسن وأحمد والحاكم، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم (97).
8 يراجع: جامع العوم (1/454).
9 أخرجه الترمذي. وأصله في البخاري.
10 جامع العلوم والحكم (1/457).
11 المصدر السابق (1/458).
المصدر موقع امام المسجد